في أواخر الستينات قمت بزيارة للمزرعة الشرقية القريبة من رام الله وقفنا أمام شيخ أشيب مسترسل اللحية و لأول وهلة لم يعرنا انتباها و بقي مصوبا ناظريه نحو قمة ( جبل برج لسانه) جنوبي القرية يفترش جاعداً من جلود الغنم ثم ما لبث أن اعتذر لنا لعدم مبادرته لدعوتنا للضيافة لأنه في حالة شرود ذهن أسيراً لذكرياته من سجف الماضي في عقله الباطن يلازمه ويعود به لطفولته وبواكير شبابه وبدأ يسرد قصته مبرراً شروده ثم قال:
” قبيل الحرب العالمية الأولى عام 1914 طلبنا للخدمة العسكرية للجيش التركي انا ورفاقي من أبناء سلواد صالح أبو سعد وإسماعيل أبو قاسم. فقلت له توفوا لرحمته تعالى. |
” ألقت بنا عصا الترحال في بيروت وفي إحدى الأمسيات وكنت أسير لوحدي قرب الميناء وأنا باللباس العسكري اقترب مني احدهم وسألني: هل تحب السفر لبلاد برّى لأمريكا مثلا؟ قلت: تنقصني تكاليف السفر. قال: لا عليك وذهبت معه ” لببور البحر” ويعني الباخرة فقدمني للقبطان بوساطة ترجمان قال مهمتك العمل في بيت النار تقديم الوقود الذي كان حين ذاك بالفحم وسافرنا، و تحملت مشاق السفر المضني و تعلمت القليل من اللغة الانجليزية خلال مدة السفر لترسو بنا الباخرة على ميناء نيويورك وخدمتني المقادير حين نزولي للرصيف اذ تعرف علي احد المسلمين وساعدني في ايجاد السكن و العمل في مسجد وعشت مع بيئة تختلف اختلافاً كلياً عن بيئتنا وكادت تغويني الحياة الأمريكية و لكنني لم أتكيف بالمطلق معها وكان هاجسي المسيطر على ذكرياتي لمسقط رأسي في المزرعة الشرقية حيث السعادة و الهناء في مرتع طفولتي و بواكير شبابي، ثم تنهد متأوها وسأل: ماذا تشاهدون على قمة الجبل المقابل؟ قلنا انه مجلل بالسواد و لعله نبات النتش قال: على رسلكم هذا بيت القصيد ثم قال: الحاج عبد الحليم أبو هيفا المغترب و العائد الحزين أن هذا الجبل الذي ترون و الذي أرنو إليه و أطيل النظر يوجد على قمته أطلال لبرج عسكري روماني و اسم الجبل متشابك ( برج لسانه) و لسانه لان الجبل يبدو منظره من الجبال المجاورة على شكل لسان من الأعلى للأسفل، رأسه يشير لعيون الحرامية انحداراً حيث الوادي الذي كان طريقاً للقوافل من الشام فالقدس و العكس و الجبل فاصل بين سلواد و المزرعة الشرقية.
وقيل أن سلواد سميت باسمه لسان الواد ثم حرّفت واختزلت وأصبحت سلواد فقط، وعلى سفح الجبل أطلال لبرج أو قلعة رومانية ومقام للشيخ صالح المعروف لدى العامة انه ولي من أولياء الله يتبركون بمقامة، و لكن الحقيقة غير ذلك فبالإضافة إلى تقواه كان جندياً تحت إمرة الناصر صلاح الدين الأيوبي مكلف بحماية الموقع العسكري الاستراتيجي كغيره من المواقع على قمم جبال فلسطين وملتقى طرق فلسطين الرئيسية مرابطاً مهمته مراقبة جنود الفرنجة ورصد تحركاتها حيث يشعل النار ليرى دخانها نهارا وضوء نارها ليلاً، لتصل الاشارات إلى دمشق خلال ساعة عن طريق نقاط المراقبة الإستراتيجية لهذه المواقع الهامة.
واستكمل ابو هيفا حديثه قائلاً: أنا هنا وأرنو للجبل كما ترون أتحسر على ماض كان فيه بهذا الجبل جنان الدنيا، عشت طفولتي و بواكير شبابي بأيام الصيف( القيظ) بالاضافة الى “معازب” و “عرش” و قصور من حجارة صالحة للسكن في موسم التين و العنب و الرمان في أحضان الطبيعة الخلابة حيث الهناء و الصفاء مع صياح الديكة فجراً وزقزقة العصافير صباحاً و تغريد الأطيار التي تصدح طيلة النهار، وفي الليل سمراً على الربابة أو المجوز، اليرغول، الشبّابة، على ضوء القمر نتمتع بصفاء الجو ونقائه ودغدغة نسيم الجبل لأجسامنا المنهكة بعد عناء النهار وقطف الثمار و جمع ( الذبيل) أي ( القطين) وتجفيفه و كنّا نعيش الاكتفاء الذاتي و التعاون الاجتماعي التلقائي بتقاسم لقمة العيش الهنيئة، وكانت المرأة تمد جيرانها بالطعام إذا لم يكن عندهم الوقت للطهي، أن أنسى فلن أنسى شربة ماء من جرة فخارية تحت شجرة من ماء عين ( الصرارة) بين سلواد و المزرعة الشرقية، ماؤها شفاء وألذ مذاقا من مرطبات أمريكا جميعها.
يا ترى ألا يحق لي أن اقبع في موقعي هذا وأرنو للجبل و اجتر ذكريات مضت و انقضت على أنقاض ذكراها بعد ان وجدت أن التصحر حل مكان الخصب و النماء على قمة الجبل، فالمرئيات التي كانت بمخزون ذاكرتي و أنا في بلاد الغربة و الشتات دفعتني للعودة للوطن متجذراً بانتمائي إليه.
لذا فقد أصبحت أتمنى على طيور الفينيق الفلسطيني المهاجرة إلى أمريكا نفض الرماد عنها لتحيى من جديد بعيدا عن التجنس لتعود للوطن طيور الفينيق المهاجرة لتعمره من جديد و تعيد للوطن بهجته.
من هنا ومع تأثري بآراء المرحوم الحاج عبد الحليم الذي علمنا روح الانتماء للوطن لدرجة أن المرحوم يعد من عشاق الوطن الذي تغنى فيه بمنفاه بحيث أصبح متيما بحبه و فكر ان الأرض كما تركها و لسان حاله يقول مع قصيدة بن الملوح:
” لم تزل ليلي بعيني طفلة لم تزد عن أمس إلا أربعا”
ومات المرحوم حزيناً مصدوماً بعد عودته من الغربة ليجد ( ليلاه) الذي عشقها أرضاً جرداء ومتصحرة.
وإنني لأرجو أن تعمل وزارة الزراعة على دعم المزارعين و المواطنين على إعمار الأرض و توزيع الأشتال في عيد الشجرة على طلبة المدارس لكل واحد منها نبته و بالتعاون مع كل الوزارات بما فيها التربية و التعليم واتحاد لجان العمل الزراعي مع التقدير لجهودهم البناءة لنعمل على معالجة التصحر انطلاقاً من الحديث الشريف: “إذا قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة فليزرعها”. لنصل إلى الاكتفاء الذاتي تمثلا بقول جبران خليل جبران: ” ويل لأمة تأكل من غير ما تزرع وتلبس دون أن تنسج وتصنع”. لذا فلنعمل على زراعة الحبوب كي لا نستورد القمح و الطحين و غيره على أن نعيش ونتعايش مع الوضع الراهن بالاقتصاد و التقشف الوطني حتى وصولنا للتحرير و الاستقلال و النصر.
حماد محمود السلوادي/ عضو اللجنة الزراعية في اتحاد لجان العمل الزراعي/ سلواد