الزراعة البيئية من منظور التنمية التحررية
مؤيد بشارات – العمل الزراعي ظلت الزراعة البيئية من المواضيع الساخنة والمهمة للنقاش في البلاد
الزراعية، كذلك في مؤتمرات ومنتديات التنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر(النظيف).
وكما يقول الناشط المكسيكي بيتر روسيت في حركة طريق الفلاحين –”لا فيا
كمبسينا”- إن الزراعة البيئية اليوم أصبحت نمطاً عالمياً.
وفي العقود القليلة
الماضية، الكثير من الإجراءات جرى تجاهلها، وأصبح الحديث عن اجراءات الزراعة
التقليدية القديمة، فيما الآن حركات مختلفة ومنظمات عالمية تريد أن تمتلك وتسيطر
على زمام الأمور فيما يتعلق بالزراعة البيئية، لأن الزراعة الحالية لها العديد من
الآثار السلبية على البيئة وعلى مستويات الإنتاج المستدام، وعلى صحة الإنسان والأجيال
القادمة.
أما الزراعة البيئية Agro-ecology كمصطلح فقد تمت
ترجمته وتعريفه بطرق عديدة ومتنوعة وفي بعض الأحيان تم استخدامه بشكل خاطئ. وفيما
يخص تعريفه ضمن المنظمات الدولية كمنظمة الأغذية والزراعة الفاو FAO، فإنها الأجندة
البديلة للدفاع عن الزراعة المستدامة 2،
أما للآخرين فهي فرصة لتحويل وتغيير نمط الزراعة الحالية. وفيما يخص العديد من
منظمات وحركات الفلاحين والحركات الاجتماعية، فالزراعة البيئية هي حركة مقاومة ضد
نظام الزراعة الحالي والشركات الزراعية العابرة للقارات، وفي نفس الوقت تسعى بعض
الحركات الليبرالية الجديدة والتعاونيات لفرض أشكال جديدة لهذا المفهوم بما يخدم
مصالحهم، ولتقوية فرص الحصول على التمويل الأخضر green fund.
ماذا
تعني الزراعة البيئية ؟
حسب قاموس ميريام
ويبستر الالكتروني، فإنه يعرّف الزراعة البيئية على أنها تطبيق للمفاهيم والمبادئ
البيئية لتصميم وتطوير وإدارة أنظمة الزراعة المستدامة، بحيث تقوم على إدخال أفكار
تتعلق بالبيئة والمجتمع ولا تركز فقط على الإنتاج بل على استدامة النظام البيئي
أيضا 3. فهذا التعريف
بحد ذاته يلمح للعديد من الإيجابيات حول المجتمع والإنتاج المتزامن مع محدودية الأراضي
والحقول الزراعية.
أما حركة طريق
الفلاحين “لا فياكمبسينا” فإنها تعرّف الزراعة البيئية على أنها تحول
زراعي ضد الزراعة الصناعية بما يعرف بagribusiness واستثمارات
الشركات الزراعية الكبرى، وهي ضد خصخصة الموارد واستخدام المدخلات الخطيرة، وضد
تجارة الغذاء كسلعة دون التركيز على نقص البذور واضمحلال الأراضي الزراعية للسكان،
وأيضاً هي بديل لمجابهة أسباب التغير المناخي، لذلك فالزراعة البيئية هي كل ما
يتعلق بالزراعة بما يشمل الاستدامة للنظام البيئي وتحقيق العدالة الاجتماعية
والاقتصادية لكل مواطن بموازاة المشاركة السياسية لصغار المزارعين بما فيهم النساء
والمواطنين الأصليين، وهي نابعة من اهتمامات الفلاحين وتطلعاتهم واحتياجاتهم
ومشاركاتهم وليست مبنية على احتياجات الأسواق.
أما من المنظور
الفلسطيني فإن الزراعة البيئية تعني الزراعة ضمن النظام البيئي والحفاظ على الموارد
واستدامتها بموازاة حماية الأرض من الإستيطان والتهويد وضياعها بالمصادرة من
الاحتلال الكولينيالي، وذلك بالتزامن مع القضاء على الاقطاعيات الجديدة وديمومة
صغار المزارعين كفاعلين أساسيين في سلسلة الدفاع عن الأرض وحمايتها.
ففي الحالة
الفلسطينية نحن في سباق مع الزمن بين حماية الأرض الأم من التصحر والملوثات
والكيماويات وكذلك في حمايتها من المصادرة والإحلال القسري المتمثل بغطرسة الإحتلال
والرأسمالية العالمية عبر شركات الإبذار أو الأدوية الزراعية والمبيدات.
فالزراعة البيئية
كداعم أساسي للتنمية التحررية التي تدعم صمود المزارعين والفلاحين وعائلاتهم
وتجعلهم فاعلين وأكثر وعياً لما يدور حولهم، هي ساند قوي لخلق الإكتفاء الذاتي على
جميع المستويات بدءً من المستوى الفردي والعائلي والمحلي وصولاً لاكتفاء ذاتي قومي
يوفر الغذاء السليم وبجودة عالية للمواطن الفلسطيني كشريك في عجلة الانتاج وليس
كمستهلك. ولكي يتحقق هذا النوع من الزراعة، يتوجب علينا توعية المزارعين والفلاحين
وعائلاتهم بأهمية الحفاظ على الأرض الأم وديمومة مواردها لكي تكون متاحة للأجيال
القادمة، التي ستكمل مشوار تحرير الأرض والإنسان من بقايا العفن الرأسمالي الجاثم
على صدور الفقراء والمهمشين من الفلاحين ويستغل عوزهم وحاجتهم لتوفير قوت عائلاتهم.
وتتمثل إحدى التجارب
الفلسطينية بالزراعة البيئية في تأسيس اتحاد لجان العمل الزراعي لبنك البذور
البلدية منذ العام 2003، وذلك لحماية الموروث البلدي للبذار من الضياع في ظل سيطرة
الشركات الرأسمالية على البذار وتهجينها وتعديلها جينياً بما يخدم مصالحها الإستثمارية
بعيداً عن الآثار المدمرة للبيئة ولصحة الإنسان من هذه التعديلات. وقد دأب الإتحاد
منذ بداية تأسيس بنك الذور حتى الآن على الحفاظ على الزراعات البلدية وتشجيع صغار
الفلاحين على الاستمرار في الزراعة البيئية المعتمدة على البذار البلدية، حيث يقوم
الاتحاد سنوياً بتوزيع البذار على الفلاحين بموسمين الشتوي والصيفي ويقوم باسترداد
جزء من هذه البذار للحفاظ على هذا الموروث الثمين.
عمد الاتحاد أيضاً على
نشر أفكار الزراعة العضوية التي تعتمد على الحد الأدنى من استخدام المبيدات
الحشرية أو الفطرية أو النباتية والتي تقضي على المحيط الطبيعي لسلسلة المكافحة
الطبيعية للآفات، وكذلك على استخدام الأسمدة العضوية البلدية أو المخمرة
(الكمبوست) كبديل للأسمدة الكيماوية، ومن خلال ذلك وزع الاتحاد عشرات الحدائق
المنزلية الذكية التي تتلائم مع التغير المناخي وكذلك مع الزراعة البيئية كمفهوم
للحفاظ على الأرض والموارد.
أما بخصوص التجارب
العالمية، فالتجربة الكوبية والفيتنامية أكبر دليل على صمود الإرادة أمام الغطرسة،
فالمزارع الواعي لما يدور ويحاك حوله من مشاريع تصفوية لقضيته بدءً من العدالة
الاجتماعية والاقتصادية وانتهاءً بتحرير الأرض من الاحتلال، يكون قادراً على
مواصلة الدرب وابتكار الأفضل للديمومة، فالمزارع يحتاج للمواظبة على زراعة الأرض
من قمح وشعير وبقوليات وخضروات وشجريات وتربية المواشي والدواجن على المستوى
الفردي العائلي، لتحقيق اكتفاء ذاتي واقتصاد مقاوم غير تابع لاقتصاد الاحتلال ونظريات
السوق التي فرضتها أجندات رأس المال.
زراعة مستدامة
فالزراعة البيئية هي
اجراءات وممارسات زراعية تحترم الطبيعة والأرض الأم، وهي نهج شمولي للانتاج يدمج
بين العلم والمقاومة والممارسات، وهي نمط زراعي يعتمد الزراعة العائلية كأساس بحيث
تحمي صغار المزارعين والنهج التقليدي في الزراعة، كما تضمن لهم نهضتهم ورقيهم،
فالزراعة البيئية هي الزراعة المستدامة التي تتجنب الكيماويات وتحمي التربة وتحافظ
على خصوبتها وتستخدم أنماط المحاصيل المتعددة والمتنوعة. وهي النظام الزراعي الذي
يتناغم ويتواءم مع الطبيعة، بدمج المعرفة الإنسانية بالتوزان مع الأرض الأم. وحيث
أنها تختلف عن الممارسات المهيمنة على المزراع لأنها تعتني وتهتم باستقلالية
وسيادة الفلاحين للوصول إلى مصادرهم واستخدامهم للمدخلات والتقنيات وتحديد أولوياتهم
في السوق، لذلك توصف بأنها العودة إلى الجذور والاحتفاظ بموروث الأجداد في أنماط
الزراعة.
وهي أكثر من وسيلة أو
طريق لأنها تقوم على نقل قوة التحكم وتقرير مصير الزراعة والمزارعين والحوكمة، وهي
حركة ضد الزراعات الأحادية للشركات الزراعية، والزراعة التي تعتمد على الكيماويات،
وهي حركة مقاومة من السكان الأصليين والفلاحين ضد الأنماط الزراعية الحالية التي
تدفعهم أكثر وأكثر نحو المجاعات والفقر. فالزراعة البيئية هي تلبية النداء للغذاء
السليم وهي حملة للحفاظ على البيئة، وهي حركة للسيادة على المصادر من أرض ومياه
وبذور وضد أنظمة الاحتكار والاستغلال في السوق.
وهي طريقة حياة ومعيشة
تضمن التوازن بين احتياجات السكان والتوازن مع النظام البيئي، ويمكن ممارستها على
شكل الزراعة العضوية والزراعات المستدامة.
على الرغم من أن
الزراعة البيئية تستخدم وتمارس من العديد من المزارعين والدول لاهتمامات فردية، إلا
انها ليست ممارسات مبتكرة حديثاً أو مخترعة في الزراعة. فقد مورست هذه الزراعة منذ
زمن من قبل المزارعين حول العالم، وكان أساسها المعرفة المحلية للسكان الأصليين
نتيجة التكيف مع البيئات المحلية التي دفعتهم لابتكارات وابداعات في نظامهم
الزراعي.
الزراعة البيئية كمصطلح
هو واسع وفضفاض لأنها تشمل الاستيعاب المحلي لكل مزارع حسب منطقته، ولانها تشمل
العديد من عوامل وعناصر النظام الزراعي كاستخدام المدخلات الزراعية وملكية المصادر
الطبيعية المتاحة، لذلك هي أكثر من كونها فقط طريقة أو نمط، فهي حركة اجتماعية
لتحويل وتغيير النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الحالي المستخدم في نظام
الزراعة.
وأحياناً فإن مفهوم
الزراعة البيئية يساء فهمه وتعريفه، فبعض المدافعين عن الزراعات الحديثة يعرفونها
بأنها الرجوع الى نظام الزراعة التقليدية القديمة، حيث أنهم يدعون بأن هذا النمط
من الزراعة لا يمكنه تغذية العالم بظل التزايد المستمر في عدد السكان، وبوجهة
نظرهم فإن استخدام الأصناف المحسنة والمهجنة والكائنات المعدلة وراثياً والمبيدات
والأسمدة الكيماوية واستخدام آخر صيحات العلوم والتكنولوجيا هي الطريقة الوحيدة
لزيادة الانتاج. وبكل تأكيد هم مخطئون مئة بالمئة، لأن الزراعة البيئية ليست فقط
زراعة “الكفاف” التي تلبي احتياجات عائلة واحدة فقط على مستوى زراعي
صغير، بل إنها تمكين المزراعين وزيادة انتاجهم، لانه لو استمرينا باستخدام
الكائنات المعدلة وراثياً والكيماويات فإنها لن تزيد الإنتاج لكنها في نهاية
المطاف ستعمل على تصحر الأراضي الزراعية الخصبة وتؤذي بشكل كبير وخطير البيئة
المحيطة بما في ذلك صحة الانسان والاجيال المتعاقبة. لذا فإن الزراعة البيئية هي
الأكثر انتاجاً والأكثر نفعاً لأنها تقلل الحد الأدنى من استخدام مدخلات الإنتاج
الخارجية وتزيد الحد الأقصى من استخدام المدخلات المحلية ومتبقيات السماد البلدي
والعضوي والمصادر العضوية الأخرى.
الزراعة البيئية
تشكل فرصة جدية للشركات العابرة للقارات والشركات الرأسمالية، فهذه الشركات تتفق
تماماً على أن الزراعة الحالية تعمل على تدهور البيئة وتؤثر سلباً على حياة
المزارعين ولا يمكن ضمان استدامتها على المدى البعيد. لذلك تجد تلك الشركات
المبررات السياسية والبيئية للهروب من الأزمات ولاستكمال نشاطهم الاقتصادي
الاستثماري كالمعتاد. فهم يخططون لتسويق منتجاتهم الزراعية باسم الزراعة البيئية،
فمثلاً شركة “مونسانتو” تنتج سماد عضوي مخمر (كومبوست) واسمدة عضوية
دبالية ومبيدات حيوية وتسوقها كمنتجات عضوية، فتلك الشركات قررت العزم على تشويه
معنى وروح الزراعة البيئية بما يتناسب مع اهتماماتهم وميولهم الاستثمارية البحتة.
والسؤال الأهم هل
باستطاعة الزراعة البيئية أن تلبي احتياجات الغذاء المتزايدة في العالم؟
هناك العديد من الأمثلة
في أماكن مختلفة من العالم والتي تظهر طرق الزراعة التقليدية التي تزيد الانتاج
بدون أن تدمر الطبيعة والبيئة، فعلى سبيل المثال يمكننا أخذ برنامج المكافحة
المتكاملة للآفات كبرنامج ايجابي بعكس الزراعات التقليدية التي تعتمد على
الكيماويات. فمثلاً في الهند نرى أن الزراعة البيئية (ذات صفر تكاليف) آتت أكلها وكانت
تحفيزية للمزارعين، كذلك الأمر بالنسبة للمزارعين المنتجين للزراعات العضوية في
كندا فقد حصلوا على أسعار جيدة لمنتجاتهم ولم تتأثر سلباً أرباحهم. وفي كوبا
يستخدم الفلاحون نظام الزراعات المتعددة والمتنوعة للمحاصيل والفواكه في نفس
الحقل، مما أدى إلى تحسن انتاجهم وعادت عليهم هذه التجربة بأرباح جيدة تضاهي التي
يحصل عليها الموظفون. وكذلك الأمر بالنسبة للفلاحين في اندونيسيا الذين عادوا للأرض
بالزراعة البيئية التي جعلتهم يشعرون بسيادتهم على الموارد وكذلك أن يكونوا شركاء
في الربح.
فمن هذه الأمثلة يتبين أن
الزراعة البيئية ليست فقط عملية الإنتاج الزراعي، وإنما حوكمة الفلاحين والمزارعين
واحترامهم لذاتهم وللطبيعة والارض، وتقرير الفلاحين لانتاج غذاء سليم وصحي للبشرية
جمعاء، ومكنتهم من المشاركة المؤثرة في التحكم بالموارد واستدامة العملية الزراعية.
نعم، الزراعة البيئية
هي حركة ضد الرأسمالية، لأنها ضد سياسات خصخصة الموارد واعتبار حياة الناس سلعة
تخضع لقوانين العرض والطلب، وهي ضد نزع الإنسانية من مكونات الطبيعة، وهي حركة ضد
الشركات العابرة للقارات وضد ما يعرف بالزراعة الصناعية، لأنها تعمل باستمرار على
انتزاع مصادر الزراعة وتقوم بإحلال صغار المزارعين بالميكنة وتقضي على الملكيات
الصغيرة، وهي تدافع عن نظام التحكم بالغذاء بالتوازي مع حقوق الفلاحين في سيادتهم
على مواردهم.
ففي الزراعة البيئية،
نحن كفلاحين ننتج الغذاء لضمان استمرارية الحياة والعيش للبقية، وانتاجنا للبشرية
جمعاء، وليس لتحصيل الأرباح تحت أي ثمن، كما تفعل الزراعات الحالية التي تنتج فقط
للأرباح وعلى حساب الأرض والتربة وخصوبتها وعلى حساب حياة الفلاحين والمستهلكين في
آن واحد.
فالاستمرار بالزراعة
البيئية هو نضال جماعي ضد التعديات والانتهاكات الخارجية المتمثلة بقوى الشر من الرأسمالية
العالمية والاحتلال الإسرائيلي على المصادر، وهي حركة للحفاظ على البيئة
بالاستخدام الأمثل والرشيد للمصادر والموارد المتاحة للحفاظ على مستقبل البشرية
والانتاج الجماعي، وبهذا النضال وهذه الحركة نضمن وصول الفلاحين إلى مورادهم ونضمن
التوزيع العادل والمتساوي للأرباح، وكذلك فإنه لا بديل آخر عن الزراعة البيئية
كوسيلة لتحقيق تنمية تحررية مستدامة..
المصادر والمراجع:
- The
Journal of Peasant Studies: Agroecology as a territory in dispute: between
institutionality and social movements, Peter M. Rosset, Published online:
30 Aug 2017. - FAO
definition 2008, FAO website : http://www.fao.org/agroecology/knowledge/definitions/en/ - Webster
dictionary website: https://www.merriam-webster.com/dictionary/agroecology